فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{فإذا أمنتم} قال مجاهد أي: خرجتم من السفر إلى دار الإقامة، ورده الطبري، قيل: ولا ينبغي رده لأنه شرح الأمن بمحل الأمن لأن الإنسان إذا رجع من سفره وحل دار اقامته أمن، فكان السفر مظنة الخوف، كما أن دار الإقامة محل الأمن. وقيل: معنى فإذا أمنتم أي: زال خوفكم الذي ألجاكم إلى هذه الصلاة. وقيل: فإذا كنتم آمنين، أي: متى كنتم على أمن قبل أو بعد.. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُمْ} فالمعنى بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة {فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم} وفيه قولان الأول: فاذكروا بمعنى فافعلوا الصلاة كما علمكم بقوله: {حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين} [البقرة: 238] وكما بينه بشروطه وأركانه، لأن سبب الرخصة إذا زال عاد الوجوب فيه كما كان من قبل، والصلاة قد تسمى ذكرًا لقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} [الجمعة: 9].
والقول الثاني: {فاذكروا الله} أي فاشكروه لأجل إنعامه عليكم بالأمن، طعن القاضي في هذا القول وقال: إن هذا الذكر لما كان معلقًا بشرط مخصوص، وهو حصول الأمن بعد الخوف لم يكن حمله على ذكر يلزم مع الخوف والأمن جميعًا على حد واحد، ومعلوم أن مع الخوف يلزم الشكر، كما يلزم مع الأمن، لأن في كلا الحالين نعمة الله تعالى متصلة، والخوف هاهنا من جهة الكفار لا من جهته تعالى، فالواجب حمل قوله تعالى: {فاذكروا الله} على ذكر يختص بهذه الحالة.
والقول الثالث: أنه دخل تحت قوله: {فاذكروا الله} الصلاة والشكر جميعًا، لأن الأمن بسبب الشكر محدد يلزم فعله مع فعل الصلاة في أوقاتها.
أما قوله تعالى: {كَمَا عَلَّمَكُم} فبيان إنعامه علينا بالتعليم والتعريف، وأن ذلك من نعمه تعالى، ولولا هدايته لم نصل إلى ذلك، ثم إن إصحابنا فسروا هذا التعليم بخلق العلم والمعتزلة فسروه بوضع الدلائل، وفعل الألطاف، وقوله تعالى: {مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} إشارة إلى ما قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من زمان الجهالة والضلالة. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فاذكروا الله} بالشكر والعبادة {كما علمكم} أي: أحسن إليكم بتعليمكم ما كنتم جاهليه من أمر الشرائع، وكيف تصلون في حال الخوف وحال الأمَن. و: ما، مصدرية، و: الكاف، للتشبيه.
أمر أن يذكروا الله تعالى ذكرًا يعادل ويوازي نعمة ما علمهم، بحيث يجتهد الذاكر في تشبيه ذكره بالنعمة في القدر والكفاءة، وإن لم يقدر على بلوغ ذلك.
ومعنى: كما علمكم، كما أنعم عليكم فعلمكم، فعبر بالمسبب عن السبب، لأن التعليم ناشئ عن إنعام الله على العبد وإحسانه له.
وقد تكون الكاف للتعليل، أي: فاذكروا الله لأجل تعليمه إياكم أي: يكون الحامل لكم على ذكره وشكره وعبادته تعليمه إياكم، لأنه لا منحة أعظم من منحة العلم.
{ما لم تكونوا تعلمون} ما: مفعول ثان لعلمكم، وفيه الامتنان بالتعليم على العبد، وفي قوله: {ما لم تكونوا تعلمون} إفهام أنكم علمتم شيئًا لم تكونوا لتصلوا لإدراكه بعقولكم لولا أنه تعالى علمكموه، أي: أنكم لو تركتم دون تعليم لم تكونوا لتعلموه أبدا.
وحكى النقاش وغيره أن معنى: {فاذكروا الله} أي صلوا الصلاة التي قد علمتموها، أي: صلاة تامة بجميع شروطها وأركانها وتكون: ما، في: {كما علمكم} موصولة أي: فصلوا الصلاة كالصلاة التي علمكم، وعبر بالذكر عن الصلاة والكاف إذ ذاك للتشبيه بين هيئتي الصلاتين: الصلاة التي كانت أولًا قبل الخوف، والصلاة التي كانت بعد الخوف في حالة الأمن.
قال ابن عطية: وعلى هذا التأويل: {ما لم تكونوا} بدل من: ما، التي في قوله: كما، وإلاَّ لم يتسق لفظ الآية. انتهى. وهو تخريج يمكن، وأحسن منه أن يكون بدلًا من الضمير المحذوف في علمكم العائد على ما، إذ التقدير علمكموه، أي: علمكم ما لم تكونوا تعلمون.
وقد أجاز النحويون: جاءني الذي ضربت أخاك، أي ضربته أخاك، على البدل من الضمير المحذوف. اهـ.

.قال السعدي:

{فَإِنْ خِفْتُمْ} لم يذكر ما يخاف منه ليشمل الخوف من كافر وظالم وسبع، وغير ذلك من أنواع المخاوف، أي: إن خفتم بصلاتكم على تلك الصفة فصلوها {رِجَالا} أي: ماشين على أقدامكم، {أَوْ رُكْبَانًا} على الخيل والإبل وغيرها، ويلزم على ذلك أن يكونوا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وفي هذا زيادة التأكيد على المحافظة على وقتها حيث أمر بذلك ولو مع الإخلال بكثير من الأركان والشروط، وأنه لا يجوز تأخيرها عن وقتها ولو في هذه الحالة الشديدة، فصلاتها على تلك الصورة أحسن وأفضل بل أوجب من صلاتها مطمئنا خارج الوقت {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} أي: زال الخوف عنكم {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} وهذا يشمل جميع أنواع الذكر ومنه الصلاة على كمالها وتمامها {كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} فإنها نعمة عظيمة ومنة جسيمة، تقتضي مقابلتها بالذكر والشكر ليبقي نعمته عليكم ويزيدكم عليها. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

.سؤال: فإن قيل: قوله: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} يدل على أن المراد منه الخوف من العدو حال المقاتلة:

قلنا: هب أنه كذلك إلا أنه لما ثبت هناك دفعًا للضرر، وهذا المعنى قائم ههنا، فوجب أن يكون ذلك الحكم مشروعًا والله أعلم. اهـ.

.سؤال: فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية، وبين ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى يوم الخندق الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بعد ما غاب الشفق؟

فالجواب: أن أبا سعيد روى أن ذلك كان قبل نزول قوله تعالى: {فان خفتم فرجالًا أو ركبانًا} قال أبو بكر الأثرم: فقد بين الله أن ذلك الفعل الذي كان يوم الخندق منسوخ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.حذف المفعول لإحاطة العلم به:

قال الواحدي رحمه الله معنى الآية: فإن خفتم عدوًا فحذف المفعول لإحاطة العلم به، قال صاحب الكشاف: فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره، وهذا القول أصح لأن هذا الحكم ثابت عند حصول الخوف، سواء كان الخوف من العدو أو من غيره، وفيه قول ثالث وهو أن المعنى: فإن خفتم فوات الوقت إن أخرتم الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم فصلوا رجالًا أو ركبانًا، وعلى هذا التقدير الآية تدل على تأكيد فرض الوقت حتى يترخص لأجل المحافظة عليه بترك القيام والركوع والسجود. اهـ.

.قال القرطبي:

فرّق مالك بين خوف العدوّ المقاتل وبين خوف السبع ونحوه من جمل صائل أو سَيْل أو ما الأغلب من شأنه الهلاك، فإنه استحب من غير خوف العدوّ الإعادةَ في الوقت إن وقع الأمن. وأكثر فقهاء الأمصار على أن الأمر سواء. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجاء في الأمن بإذا وفي الخوف بإن بشارة للمسلمين بأنهم سيكون لهم النصر والأمن. اهـ.

.في بناء الخائف إذا أمِن:

اختلف العلماء من هذا الباب في بناء الخائف إذا أمِن؛ فقال مالك: إن صلّى ركعة آمنا ثم خاف ركب وبَنَى، وكذلك إن صلّى ركعة راكبًا وهو خائف ثم أمِن نزل وبَنَى؛ وهو أحد قولي الشافعيّ، وبه قال المزنِيّ. وقال أبو حنيفة: إذا افتتح الصلاة آمنًا ثم خاف استقبل ولم يَبْن، فإن صلّى خائفًا ثم أمِن بَنَى. وقال الشافعيّ: يَبْني النازلُ ولا يبني الراكب. وقال أبو يوسف: لا يبني في شيء من هذا كله. اهـ.

.قال أبو حيان:

وتدل هذه الآية على عظيم قدر الصلاة وتأكيد طلبها إذا لم تسقط بالخوف، فلا تسقط بغيره من مرض وشغل ونحوه، حتى المريض إذا لم يمكنه فعلها لزمه الإشارة بالعين عند أكثر العلماء، وبهذا تميزت عن سائر العبادات لأنها كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها. اهـ.

.قال القرطبي:

قال علماؤنا رحمة الله عليهم:
الصلاة أصلها الدعاء، وحالة الخوف أولى بالدعاء؛ فلهذا لم تسقط الصلاة بالخوف؛ فإذا لم تسقط الصلاة بالخوف فأحْرَى ألاّ تسقط بغيره من مرض أو نحوه، فأمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلوات في كل حال من صحة أو مرض، وحضر أو سفر، وقدرة أو عجز وخوف أو أمن، لا تسقط عن المكلَّف بحال، ولا يتطرّق إلى فرضيتها اختلال. وسيأتي بيان حكم المريض في آخر آل عمران إن شاء الله تعالى. والمقصود من هذا أن تُفعل الصلاةُ كيفما أمكن، ولا تسقط بحال حتى لو لم يتَّفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها، وبهذا تميَّزت عن سائر العبادات، كلها تسقطُ بالأعذار ويترخص فيها بالرُّخَص. قال ابن العربيّ: ولهذا قال علماؤنا: وهي مسألة عظمى، إن تارك الصلاة يقتل؛ لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحال، وقالوا فيها: إحدى دعائم الإسلام لا تجوز النيابة عنها ببدن ولا مال، فيقتل تاركها؛ أصله الشهادتان. وسيأتي ما للعلماء في تارك الصلاة في براءة إن شاء الله تعالى. اهـ.
وقال القرطبي:
لا نقصان في عدد الركعات في الخوف عن صلاة المسافر عند مالك والشافعيّ وجماعة من العلماء، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وغيرهما: يصلّي ركعة إيماء؛ روى مسلم عن بُكير بن الأخْنَس عن مجاهد عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحَضَر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة. قال ابن عبد البَرّ: انفرد به بُكير بن الأخْنَس وليس بحجة فيما ينفرد به، والصلاة أوْلى ما احتيط فيه، ومن صلّى ركعتين في خوفه وسفره خرج من الاختلاف إلى اليقين. وقال الضحاك بن مزاحم: يصلّي صاحب خوف الموت في المُسَايفة وغيرها ركعة فإن لم يقدر فليكبّر تكبيرتين. وقال إسحاق بن رَاهْوَيْه: فإن لم يقدر إلا على تكبيرة واحدة أجزأت عنه؛ ذكره ابن المنذر. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ صِحَّةٍ وَمَرَضٍ، وَحَضَرٍ وَسَفَرٍ، وَقُدْرَةٍ وَعَجْزٍ، وَخَوْفٍ وَأَمْنٍ، لَا تَسْقُطُ عَنْ الْمُكَلَّفِ بِحَالٍ، وَلَا يَتَطَرَّقُ إلَى فَرْضِيَّتِهَا اخْتِلَالٌ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ».
وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ فِي حَالِ الْخَوْفِ: فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ صَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا.
وَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفَ مِرَارًا مُتَعَدِّدَةً بِصِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَفْعَلَ الصَّلَاةَ كَيْفَمَا أَمْكَنَ، وَلَا تَسْقُطُ بِحَالٍ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَّفِقْ فِعْلُهَا إلَّا بِالْإِشَارَةِ بِالْعَيْنِ لَلَزِمَ فِعْلُهَا؛ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حَرَكَةِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى تَمَيَّزَتْ عَنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا تَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ، وَيُتَرَخَّصُ فِيهَا بِالرُّخَصِ الضَّعِيفَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عُظْمَى: إنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ الْإِيمَانَ الَّذِي لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ.
وَقَالُوا فِيهَا: إحْدَى دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ، لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا بِبَدَنٍ وَلَا مَالٍ، يُقْتَلُ تَارِكُهَا، وَأَصْلُهُ الشَّهَادَتَانِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ الْقِتَالَ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ الرَّدَّ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ. اهـ.